د. أنور علي بخرجي|  

مما لا شك فيه أن مشروعات البنية التحتية التي تجيزها الدولة وفقاً لدراسات متخصصة تعبر عن احتياجات فعلية وملحة تنصب في مجملها في خدمة المجتمع بأكمله، وطالما أن الدولة هي الممول لتلك المشروعات والرقيب على تنفيذها فلا بد أن يكون لها من الآليات والضوابط التي تضمن حسن التنفيذ وسرعة الإنجاز دون أي إخفاقات أو عثرات. وعلى الرغم من المشروعات المهولة التي أجازتها حكومتنا الرشيدة خلال السنوات الماضية، والتي تم البدء في تنفيذها عن طريق شركات متخصصة تم اختيارها وفقا لمعايير وتصنيفات محددة تؤكد جدارتها وإمكاناتها على تنفيذ تلك المشروعات التنموية، إلا أننا نجد أن معظم تلك المشروعات ما زالت متعثرة في التنفيذ ولم يحالفها الحظ في إنهاء الأعمال الموكلة إليها وفقاً للجدول الزمني المتفق عليه، على الرغم من قيام الدولة بواجبها من خلال توفير جميع المعينات والمتطلبات الأساسية لإنجاز تلك المشروعات، إضافة إلى الجهود الحثيثة المبذولة من الجهات الرسمية عن طريق تشكيل عديد من اللجان المتخصصة للمتابعة والتقصي حول مسببات التعثر، وبحث السبل الكفيلة بمعالجة الإشكاليات التي تواجه الشركات المنفذة للحد من تراكم هذه الظاهرة السالبة التي أصبحت تشكل عائقاً أساسياً في مسيرة التنمية في البلاد، ورغماً عن ذلك فما زالت الإشكالية قائمة وما زالت مشاريع البنية التحتية تشكو طول أمد التنفيذ وتطلب المغيث. فإذا حاولنا تسليط الضوء بشكل مباشر على أساس الإشكالية ومنبعها الرئيس، نجد أن هناك خللا واضحا في إطار العلاقة التعاقدية بين الجهة الحكومية والشركة المنوط بها تنفيذ المشروع، فلا بد أولاً أن تكون هناك معايير أكثر حداثة ومواكبة في اختيار الجهات المنفذة وعدم الاكتفاء بطرق ووسائل التصنيف التقليدية واعتبارها أساساً في الاختيار، كما أن عقد المقاولة بجميع مشتملاته وأحكامه يعتبر المرتكز الذي يجب أن يكون ملزماً لطرفي العلاقة، ولا بد أن ينفذ كل منهما التزاماته تجاه الآخر بكل دقة واحترافية والتقيد بما تم الاتفاق عليه نصاً وروحاً، فإذا ما تم التنفيذ بهذا الشكل والمضمون فإننا سنكون في منأى عن أي اخفاقات يمكن أن تؤدي إلى تعثر تنفيذ تلك المشروعات. وحول هذا الإطار وقبل إلقاء اللائمة على الشركات المنفذة ومخالفاتها التعاقدية، فإننا نريد تحديد العوائق الأساسية التي يمكن أن تحول دون تنفيذ المشروعات وفقاً لما تم الاتفاق عليه، ومن أهم الأمور التي يجب دراستها بعناية عقد التنفيذ من حيث الشكل والمضمون وبجميع ملحقاته استناداً لنظام المناقصات الحكومية الذي تم إصداره منذ زمن بعيد ولم يتم تحديثه أو دراسة ثغراته، فلابد من تشكيل لجنة قانونية متخصصة لدراسة هذا النظام وتنقيحه بما يتماشى مع عصرنا الحالي ومحاولة اعادة صياغة بعض أحكامه بشكل أكثر مرونة مع مراعاة الاشكاليات التي تواجه الشركات المنفذة ووضعها في الحسبان، باعتبار أن دراسة الظروف المحيطة بتطبيق النظام ومراعاته لما قد يعترض الطرفين من عوائق يمكن أن يكون علاجاً ناجعاً لحل أي إشكاليات يمكن أن تحدث بين الخاضعين لمقتضياته وأحكامه. ومن اللافت للانتباه أن أساس التعثر من الناحية القانونية يكمن في قيام الشركات المنفذة بإبرام عقود من الباطن مع بعض المقاولين لتنفيذ أعمال محددة، وغالباً ما تحدث اشكاليات فيما بين الشركات المنفذة والمقاولين من الباطن نتيجة لعدم التزامهم بعقودهم وما تحمله من مضامين، فمعظمهم يتعاملون بطرق وأساليب غير احترافية ولا يدركون قيمة الوقت والتقيد بالجدول الزمني المتفق عليه وكل ما يهمهم هو الدخول في عملية التنفيذ دون التقيد بضوابطها، وهذه الاشكالية تؤدي في نهاية المطاف لتعثر الشركة المنفذة في تنفيذ التزامها تجاه الجهة الحكومية صاحبة المشروع، فالمقاولون من الباطن لا يدركون طبيعة التزام الشركة المنفذة تجاه مالك المشروع، وعند حدوث أي مخالفات من جانبهم يتحججون بمبررات واهية ولا أساس لها من الصحة بغية الإفلات من الشروط الجزائية التي يمكن أن تطبق بحقهم من قبل الشركة المنفذة، الأمر الذي جعل الجهات القضائية المختصة بالنظر في هذه القضايا تعاني من تكدس القضايا المنظورة أمامها، وهذه إشكالية لا بد من تداركها بصورة أكثر عمقاً، وذلك عن طريق وضع ضوابط معينة حول طرق اختيار المقاولين من الباطن في تنفيذ مشروعات البنية التحتية باعتبارها مشروعات تتبع للقطاع العام ويستفيد منها المجتمع بأكمله. فطالما أننا أمام إشكالية ما زالت تشكل هاجساً وعائقاً أساسياً في مسيرة التنمية، فإنه ينبغي النظر نحو تحديد الآليات الناجعة لتخطي العقبات وتفادي المعوقات، فالدولة بمختلف قطاعاتها هي صاحبة الشأن والمالك والممول لتلك المشروعات، وحتى لا تكون هذه المشروعات الحيوية رهينة لاجتهادات كل قطاع على حدة، ونظراً لتعثر قطاعات في الدولة في إدارة الأزمة والتعامل معها ، فإننا نرى أن تكون هناك هيئة هندسية متخصصة تتبع مباشرة لوزارة المالية منوط بها تنفيذ جميع المشروعات الحكومية، على أن يتم تعزيزها بالكوادر المهنية المحلية والخبرات الأجنبية المتخصصة، حيث تظل الهيئة هي الممثل النظامي لجميع المشروعات الحكومية وفقاً لنظامها الأساسي ولائحتها التنفيذية التي تنظم آلية عملها وصلاحياتها، وبذلك تكون جميع شركات المقاولات ملزمة ومقيدة بنظام موحد يحدد بشكل تفصيلي حقوق والتزامات الطرفين تجاه بعضهما البعض دون إفساح المجال لأي اجتهادات قد يترتب عنها كثير من الآثار السالبة التي تصعب معالجتها. وبالتالي ينحصر دور الجهات الحكومية في تحديد المشروعات المطلوبة لكل قطاع ومن ثمّ تسلمها بعد تنفيذها من قبل الهيئة المختصة. قد ينتقد البعض هذا الحل بأنه عودة إلى المركزية والبيروقراطية، ولكن عندما تتعثر الحلول الممكنة، لا بد من اللجوء إلى حلول استثنائية تتطلب قرارات تخرج عن المألوف.