د. أنور علي بخرجي|

 لقد تابعت بشغف، كما تابع أغلب أطياف المجتمع، الجدل الواسع الذي نشأ بين المثقفين من أبناء هذا الوطن في جميع وسائل الإعلام حول تجمعاتهم أو تجاوزات البعض منهم في أمور لا تقبل التجاوز باعتبارها خطوطا حمراء، ونحن في هذا المجال نتساءل بكل شفافية وتجرد عن ماهية المثقف في مجتمعنا، فهل هو لقب يمنح للبعض أم يؤخذ عنوة؟ فإن كان يمنح فما الجهة المخولة بمنح هذا اللقب، واعتماد المثقف بصورة رسمية، وإظهاره للمجتمع وإفساح المجال له للدلو بآرائه ومقترحاته حول العديد من القضايا التي تهم المجتمع ليكون مؤثراً ويمتلك العصا السحرية في إقناع غيره بأفكاره النيرة وأفقه المتسع؟ وبعد التمحيص وعناء البحث لم أجد أن هناك أي جهات بعينها تختص بمنح هذا اللقب، وقد توصلت إلى قناعة راسخة بأنه لقب يؤخذ بشتى السبل والوسائل؛ ما جعلني أعيد النظر إلى ماهية الطرق والوسائل التي يؤخذ بها لقب (مثقف)، فهل هو الشخص الذي يمنح الحق في الكتابة والتعليق في جميع القضايا المطروحة لدى وسائل الإعلام المختلفة؟ أم هو الشخص الذي يقوم بتأليف رواية أو قصة؟ أم هو الشخص الذي يشارك في تنظيم وإدارة الحوار بالندوات الثقافية؟ فوجدت أن أيا من هؤلاء يطلق عليه لقب (مثقف)، ولكن من المثقفون الحقيقيون؟ وهل هناك من يدعون أنهم مثقفون أو ما يعرف بـ''المثقفاتية''؟ إن الثقافة في مفهومها العام هي سلوك حضاري ومعرفي راق متوج بفعل إنساني ولا يصح لنا القول إن هناك ثقافة دون سلوك أو ممارسة. فالمعرفة والإلمام بمناح مختلفة هي المؤشر الحقيقي للتصنيف، وذلك لا يعني بالضرورة الإلمام بكل شيء فمهما يكتسب الإنسان من معلومات ومعارف لن يبلغ الذروة ويكون بحاجة إلى المزيد باعتبار أن بحر المعرفة عميق لا حدود له، فالمثقف الحقيقي هو من يدرك أنه لا يعرف الكثير ويريد أن يعرف الكثير، والجاهل هو من لا يعرف أنه لا يعرف حتى القليل ولا يريد أن يعرف المزيد، والأخطر منهما من كان يعرف القليل، ويتصور أنه يعرف الكثير ويدعي بمعرفته المتواضعة أنه بلغ الذروة والمجد ويتفاخر بذلك باحثاً عن الشهرة والتميز، وما أكثر هؤلاء في مجتمعنا المعاصر، فهم الكارثة الكبرى التي نعانيها، أي ما يعرف بـ''المثقفاتية'' فهؤلاء لا يمتلكون أدوات التمحيص والفلترة لما يختزنونه من معلومات وأفكار فهم أداة فاعلة للبث والتلقي دون اعتبار لما قد تخلفه أفكارهم من آثار اجتماعية سالبة يتوهمون أنهم إضافة حقيقية للحركة الثقافية والمعرفية، يمزجون بين الصالح والطالح دون الاكتراث للقيم والموروثات الاجتماعية. فعندما يقتبس المرء ثقافات وأفكارا وعادات من مجتمعات أخرى ويحاول بثها بجميع الوسائل داخل مجتمعه والتأثير على الآخرين وتحريضهم كي ينهلوا من تلك الثقافة الدخيلة التي لا تليق بمجتمعنا، فإننا نصنفه ضمن التابعين الذين يقبلون الخنوع، الذين ارتضوا بأن يكونوا متأثرين وليسوا مؤثرين، فمثل هؤلاء آفة تقتلع الأخضر واليابس بما يبثونه من سموم خفية بطرق غير مباشرة وبدبلوماسية وحنكة؛ ما يؤدي إلى خسائر اجتماعية فادحة، فهؤلاء هم مستصغر الشرر. فالمثقف الإيجابي هو المدرك لأمور دينه وقواعد وعادات مجتمعه الذي هو جزء منه، والمثقف من كان قدوة في مهنته وعمله وعلاقاته الاجتماعية، فهو من سلم الناس من لسانه ويده وظل نافعاً للناس يعاونهم في السراء والضراء يعطرهم بالكلمة الطيبة واللمسة الحانية، فنحن خير أمة أخرجت للناس لتخرجهم من الظلماء إلى النور، ومن والجهل والتخلف إلى العقل القويم، فكيف لنا أن نقبل التأثر بثقافة الآخرين الخارجين عن الملة ليكونوا نبراساً لنا ولأبنائنا ولمجتمعنا يغرسون عاداتهم وأشجارهم الذابلة كي يجعلونا خلف أذيالهم نتجرع مرارات الذل والاستعباد. للمثقف دور مهم وخطير في الوقت ذاته، أي أنه سلاح ذو حدين، وهذا يعتمد على نوع الثقافة التي يحملها ويتعامل بها ويحاول إيصالها للمجتمع. فالمثقف هو المغير وجهاز الحراك الاجتماعي، فيمكن للمثقف أن يبني كما يمكنه أن يهدم، وباستطاعة المثقف أن يهيئ أجواء سليمة وسلمية، كما يمكن له أن يخلق النزاعات والأمراض الاجتماعية. فكل ذلك يعتمد على التراكمات الثقافية، وكذلك يعتمد على نوعية المجتمع والبيئة الخصبة لزرع الأفكار. فالمثقف الإيجابي لا يشترط أن يكون كاتباً صحفياً في وسائل الإعلام أو روائياً معروفاً أو مشاركاً في الأندية الأدبية، بل يكفي أن يكون بسلوكه ومعرفته شخصاً فاعلاً في مجتمعه خلوقاً ومتمسكاً بدينه وعاداته وثقافة مجتمعه ومثلاً يقتدى به في أسرته وبين أبنائه يرشدهم وينير بصائرهم بما وهبه الله سبحانه وتعالى من معرفة وإدارك. لذلك فلا بد من أن تكون هنالك يقظة وصحوة اجتماعية لمعرفة ما يتم دسه لنا من أفكار كالسم في العسل، تهدف إلى إسقاط قيمنا وأخلاقنا ومرتكزاتنا لنكون كالغصن المكسور الملقى في السيل يجرف ويرمى في أي موضع دون اعتبار لما يصيبنا نحن وأجيالنا من أضرار وخسائر. كما أننا نناشد المتبحرين في جميع ضروب الثقافة المختلفة أن يضعوا مصلحة المجتمع هي الهدف والملاذ متقيدين بتعاليم ديننا وشريعتنا السمحة.